فصل: (سورة النساء: آية 104):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويعضده {وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا} مَعَكَ. وقرئ: {وأمتعاتكم}: فإن قلت:
كيف جمع بين الأسلحة وبين الحذر في الأخذ. قلت: جعل الحذر وهو التحرّز والتيقظ آلة يستعملها الغازي، فلذلك جمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ، وجعلا مأخوذين. ونحوه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ} جعل الإيمان مستقرًا لهم ومتبوأ لتمكّنهم فيه فلذلك جمع بينه وبين الدار في التبوّء فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ فيشدون عليكم شدة واحدة. ورخص لهم في وضع الأسلحة إن ثقل عليهم حملها بسبب ما يبلهم في مطر أو يضعفهم من مرض، وأمرهم مع ذلك بأخذ الحذر لئلا يغفلوا فيهجم عليهم العدو. فإن قلت: كيف طابق الأمر بالحذر قوله: {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذابًا مُهِينًا}؟ قلت: الأمر بالحذر من العدو يوهم توقع غلبته واعتزازه، فنفى عنهم ذلك الإيهام بإخبارهم أنّ اللَّه يهين عدوهم ويخذله وينصرهم عليه، لتقوى قلوبهم، وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لذلك، وإنما هو تعبد من اللَّه كما قال: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. {فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} فإذا صليتم في حال الخوف والقتال {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} فصلوها {قِيامًا} مسايفين ومقارعين {وَقُعُودًا} جاثين على الركب مرامين {وَعَلى جُنُوبِكُمْ} مثخنين بالجراح {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} حين تضع الحرب أوزارها وأمنتم {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي أحوال القلق والانزعاج.
{إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا} محدودًا بأوقات لا يجوز إخراجها عن أوقاتها على أي حال كنتم، خوف أو أمن. وهذا ظاهر على مذهب الشافعي رحمه اللَّه في إيجابه الصلاة على المحارب في حالة المسايفة والمشي والاضطراب في المعركة إذا حضر وقتها، فإذا اطمأن فعليه القضاء. وأما عند أبى حنيفة رحمه اللَّه فهو معذور في تركها إلى أن يطمئن. وقيل: معناه فإذا قضيتم صلاة الخوف فأديموا ذكر اللَّه مهللين مكبرين مسبحين داعين بالنصرة والتأييد في كافة أحوالكم من قيام وقعود واضطجاع، فإن ما أنتم فيه من خوف وحرب جدير بذكر اللَّه ودعائه واللجأ إليه {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} فإذا أقمتم {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} فأتموها.

.[سورة النساء: آية 104]:

{وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)}
{وَلا تَهِنُوا} ولا تضعفوا ولا تتوانوا {فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ} في طلب الكفار بالقتال والتعرض به لهم، ثم ألزمهم الحجة بقوله: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ} أي ليس ما تكابدون من الألم بالجرح والقتل مختصًا بكم، إنما هو أمر مشترك بينكم وبينهم يصيبهم كما يصيبكم، ثم إنهم يصبرون عليه ويتشجعون، فما لكم لا تصبرون مثل صبرهم، مع أنكم أولى منهم بالصبر لأنكم {تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ} من إظهار دينكم على سائر الأديان، ومن الثواب العظيم في الآخرة. وقرأ الأعرج: أن تكونوا تألمون، بفتح الهمزة، بمعنى: ولا تهنوا لأن تكونوا تألمون. وقوله: {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ} تعليل. وقرئ: {فإنهم ييلمون كما تيلمون}.
وروى أن هذا في بدر الصغرى، كان بهم جراح فتواكلوا {وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} لا يكلفكم شيئًا ولا يأمركم ولا ينهاكم إلا لما هو عالم به مما يصلحكم.

.[سورة النساء: الآيات 105- 106]:

{إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)}
روى أنّ طعمة بن أبيرق أحد بنى ظفر سرق درعا من جار له اسمه قتادة بن النعمان في جراب دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه، وخبأها عند زيد بن السمين رجل من اليهود، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها، وما له بها علم، فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها، فقال: دفعها إلىّ طعمة، وشهد له ناس من اليهود. فقالت بنو ظفر: انطلقوا بنا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا إن لم تفعل هلك وافتضح وبريء اليهودي، فهمَّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يفعل وأن يعاقب اليهودي. وقيل: هم أن يقطع يده فنزلت. وروى أن طعمة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطًا بمكة ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله {بِما أَراكَ اللَّهُ} بما عرفك وأوحى به إليك. وعن عمر رضى اللَّه عنه: لا يقولنّ أحدكم قضيت بما أرانى اللَّه، فإنّ اللَّه لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى اللَّه عليه وسلم، ولكن ليجتهد رأيه، لأن الرأى من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان مصيبًا، لأن اللَّه كان يريه إياه، وهو منا الظن والتكلف {وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيمًا} ولا تكن لأجل الخائنين مخاصما للبراء، يعنى لا تخاصم اليهود لأجل بنى ظفر {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} مما هممت به من عقاب اليهودي.

.[سورة النساء: الآيات 107- 110]:

{وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)}
{يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ} يخونونها بالمعصية. كقوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم كما جعلت ظلما لها: لأنّ الضرر راجع إليهم.
فإن قلت: لم قيل: {لِلْخائِنِينَ} و{يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ} وكان السارق طعمة وحده؟
قلت: لوجهين:
أحدهما: أنّ بنى ظفر شهدوا له بالبراءة ونصروه، فكانوا شركاء له في الإثم. والثاني: أنه جمع ليتناول طعمة وكل من خان خيانته، فلا تخاصم لخائن قط ولا تجادل عنه. فإن قلت: لم قيل: {خَوَّانًا أَثِيمًا} على المبالغة؟ قلت: كان اللَّه عالما من طعمة بالإفراط في الخيانة وركوب المآثم، ومن كانت تلك خاتمة أمره لم يشك في حاله. وقيل: إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات. وعن عمر رضى اللَّه عنه أنه أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمه تبكى وتقول: هذه أوّل سرقة سرقها فاعف عنه. فقال: كذبت، إن اللَّه لا يؤاخذ عبده في أول مرة {يَسْتَخْفُونَ} يستترون {مِنَ النَّاسِ} حياء منهم وخوفا من ضررهم {وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} ولا يستحيون منه {وَهُوَ مَعَهُمْ} وهو عالم بهم مطلع عليهم لا يخفى عليه خاف من سرهم، وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء والخشية من ربهم، مع علمهم إن كانوا مؤمنين أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح {يُبَيِّتُونَ} يدبرون ويزوّرون وأصله أن يكون بالليل {ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ} وهو تدبير طعمة أن يرمى بالدرع في دار زيد ليسرّق دونه ويحلف ببراءته. فإن قلت: كيف سمى التدبير قولا، وإنما هو معنى في النفس؟
قلت: لما حدّث بذلك نفسه سمى قولا على المجاز. ويجوز أن يراد بالقول: الحلف الكاذب الذي حلف به بعد أن بيته، وتوريكه الذنب على اليهودي {ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ} ها للتنبيه في أنتم.
وأولاء: وهما مبتدأ وخبر. و{جادَلْتُمْ} جملة مبينة لوقوع أولاء خبرا، كما تقول لبعض الأسخياء: أنت حاتم، تجود بمالك، وتؤثر على نفسك. ويجوز أن يكون {أولاء} اسما موصولا بمعنى الذين، وجادلتم صلته. والمعنى: هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا، فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم اللَّه بعذابه. وقرأ عبد اللَّه: عنه، أي عن طعمة وَكِيلًا حافظا ومحاميا من بأس اللَّه وانتقامه {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا} قبيحا متعدّيا يسوء به غيره، كما فعل طعمة بقتادة واليهودي {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} بما يختص به كالحلف الكاذب. وقيل: ومن يعمل سوءا من ذنب دون الشرك، أو يظلم نفسه بالشرك. وهذا بعث لطعمة على الاستغفار والتوبة لتلزمه الحجة، مع العلم بما يكون منه. أو لقومه لما فرط منهم من نصرته والذب عنه.

.[سورة النساء: الآيات 111- 112]:

{وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)}
{فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ} أي لا يتعدّاه ضرره إلى غيره فليبق على نفسه من كسب السوء {خَطِيئَةً} صغيرة {أَوْ إِثْمًا} أو كبيرة {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} كما رمى طعمة زيدًا {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانًا وَإِثْمًا} لأنه بكسب الإثم آثم وبرمي البريء باهت فهو جامع بين الأمرين. وقرأ معاذ بن جبل رضى اللَّه عنه: ومن يكسب، بكسر الكاف والسين المشددة وأصله يكتسب.

.[سورة النساء: آية 113]:

{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)}
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} أي عصمته وألطافه وما أوحى إليك من الاطلاع على سرّهم {لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ} من بنى ظفر {أَنْ يُضِلُّوكَ} عن القضاء بالحق وتوخى طريق العدل، مع علمهم بأن الجاني هو صاحبهم، فقد روى أن ناسا منهم كانوا يعلمون كنه القصة {وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} لأن وباله عليهم {وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} لأنك إنما عملت بظاهر الحال، وما كان يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك {وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} من خفيات الأمور وضمائر القلوب، أو من أمور الدين والشرائع. ويجوز أن يراد بالطائفة بنو ظفر، ويرجع الضمير في: {مِنْهُمْ} إلى الناس. وقيل: الآية في المنافقين. اهـ.

.قال النيسابوري في الآيات السابقة:

{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)}
{يستخفون} يستترون من الناس حياء منهم وخوفًا من ضررهم {ولا يستخفون من الله} أي لا يستحيون منه لأن الاستخفاء لازم الاستحياء وهو معهم بالعلم والقدرة والرؤية وكفى هذا زاجرًا للإنسان عن المعاصي {إذ يبيّتون} يدبرون {ما لا يرضى من القول} وهو تدبير طعمة أن يرمي بالدرع في دار زيد ليسرق دونه ويحلف ببراءته وتسمية التدبير وهو معنى في النفس قولًا ليس فيها إشكال عند القائلين بالكلام النفسي، وأما عند غيرهم فمجاز، أو لعلهم اجتمعوا في الليل ورتبوا كيفية المكر فسمى الله تعالى كلامهم ذلك بالقول المبيت الذي لا يرضاه الله، أو المراد بالقول الحلف الكاذب الذي حلف به بعد أن بيته {ها أنتم هؤلاء} ها للتنبيه في أنتم وأولاء وهما مبتدأ وخبر وقوله: {جادلتم عنهم} جملة موضحة للأولى كما يقال للسخي: أنت حاتم تجود بمالك. أو المراد أنتم الذين جادلتم والخطاب لقوم مؤمنين كانوا يذبون عن طعمة وقومه لأنهم في الظاهر مسلمون. والمعنى: هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا فمن الذي يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه {أمن يكون عليهم وكيلًا} حافظًا ومحاميًا عن عذاب الله.
وهذا الاستفهام معطوف على الأول وكلاهما للإنكار والتقريع.
ثم أردف الوعيد بذكر التوبة فقال: {ومن يعمل سوءًا} قبيحًا متعديًا يسوء به غيره كما فعل طعمة بقتادة واليهودي {أو يظلم نفسه} بما يجازي به كالحلف الكاذب. وإنما خص ما يتعدى إلى الغير باسم السوء لأن إيصال الضرر إلى الغير سوء حاضر بخلاف الذي يعود وباله إلى فاعله فإن ذلك في الأكثر لا يكون ضررًا عاجلًا. لأن الإنسان لا يوصل الضرر إلى نفسه. وقد يستدل بإطلاق الآية على أن التوبة مقبولة عن جميع الذنوب وإن كان كفرًا أو قتلًا عمدًا أو غضبًا للأموال، بل على أن مجرد الاستغفار كاف. وعن بعضهم أن الاستغفار لا ينفع مع الإصرار فلابد من اقترانه بالتوبة {يجد الله غفور رحيمًا} أي له فحذف هذا الرابط لدلالة الكلام عليه لأنه لا معنى للترغيب في الاستغفار إلا إذا كان المراد ذلك. وقيل: ومن يعمل سوءًا من ذنب دون الشرك أو يظلم نفسه بالشرك وهذا بعث لطعمة على الاستغفار والتوبة لتلزمه الحجة مع العلم بما يكون منه أو بعث لقومه لما فرط منهم من نصرته والذب عنه. {ومن يكسب إثمًا} الكسب عبارة عما يفيد جر أو منفعة أو دفع مضرة ولذلك لم يجز وصف الباري تعالى بذلك. والمقصود منه ترغيب العاصي في الاستغفار وكأنه قال: الذنب الذي أتيت به إنما يعود وباله وضرره إليك لا إليّ فإني منزه عن النفع والضر، ولا تيأس من قبول التوبة. {وكان الله عليمًا حكيمًا} تقتضي حكمته أن يتجاوز عن التائب ما علمه منه {ومن يكسب خطيئة} صغيرة {وإثمًا} كبيرة وقيل: الخطيئة الذنب القاصر على فاعله والإثم هو الذنب المتعدي إلى الغير كالظلم والقتل. وقيل: الخطيئة ما لا ينبغي فعله سواء كان بالعمد أو الخطأ، والإثم ما حصل بسبب العمد {ثم يرم به} أي بأحد المذكورين أو بالإثم أو بذلك الذنب لأن الخطيئة في معنى الذنب، أو بذلك الكسب {بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا} لأنه بكسب الإثم وبرمي البريء باهت فهو جامع بين الأمرين، فلا جرم يلحقه الذم في الدارين {ولولا فضل الله عليك ورحمته} ولولا أن خصك الله الفضل وهو النبوة وبالرحمة وهي العصمة {لهمت طائفة منهم} من بني ظفر أو طائفة من الناس والطائفة بنو ظفر {أن يضلوك} عن القضاء الحق والحكم العدل {وما يضلون إلا أنفسهم} بسبب تعاونهم على الإثم والعدوان وشهادتهم بالزور والبهتان لأن وباله عليهم {وما يضرونك من شيء} لأنك إنما عملت بظاهر الحال وما أمرت الأنبياء إلا بالأحكام على الظواهر، أو هو وعد بإدامة العصمة له مما يريدون في الاستقبال من إيقاعه في الباطل. ثم أكد الوعيد بقوله: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} أي إنه لما أمرك بتبليغ الشريعة إلى الخلق فكيف يليق بحكمته أن لا يعصمك عن الوقوع في الشبهات والضلالات؟ وعلى الأول يكون المراد أنه أوجب في الكتاب والحكمة بناء أحكام الشرع على الظاهر فكيف يضرك بناء الأمر عليه {وعلمك ما لم تكن تعلم} من أخبار الأولين.
فيه معنيان: أحدهما أن يكون كما قال: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} [الشورى: 52] أي أنزل الله عليك الكتاب والحكمة وأطلعك على أسرارها وأوقفك على حقائقهما مع أنك ما كنت قبل ذلك عالمًا بشيء منهما، فكذلك يفعل بك في مستأنف إيامك حتى لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك. الثاني أن يكون المراد منها خفيات الأمور وضمائر القلوب أي علمك ما لم تكن تعلم من أخبار الأولين، فكذلك يعلمك من حيل المنافقين ووجوه مكايدهم ما تقدر على الاحتراز منهم {وكان فضل الله عليك عظيمًا} فيه دليل ظاهر على شرف العلم حيث سماه عظيمًا وسمى متاع الدنيا بأسرها قليلًا. اهـ.